الاعتداء الإسرائيلي الوحشي والغاشم علي أسطول الحرية لغزة وعلي نشطاء سلام يسعون إلي فك رمزي للحصار المفروض علي القطاع وأهله, يعيد كالعادة إنتاج نمط من ردود الأفعال.
السياسية الرسمية والمعارضة المألوفة والمتوقعة في مثل هذه الوقائع الصادمة, والتي يمكن رصدها فيما يلي: اعتبار الأعمال التي قامت بها القوات الإسرائيلية من قبيل الاستخدام المفرط وغير المبرر للقوة, أو أنها عمل مناهض للقانون الدولي العام, وتعد انتهاكا جسيما لقواعده.
وصف العمل بالوحشي والدنيء وأنه شكل من أشكال إرهاب الدولة عادي ومتكرر. تتفاوت الأوصاف في مستوي الحدة بحسب وضع الدولة العربية في إطار دوائر الصراع العربي الإسرائيلي. الحكومات والسلطات السياسية فيما وراء الدائرة البؤرية للصراع ـ وفق مصطلح ما يكل بريتشرز ـ بعضهم يطالبون بقطع العلاقات الدبلوماسية, أو سحب السفراء بين مصر والأردن وإسرائيل, أو سحب مبادرة السلام العربية, أو انسحاب بعض الدول منها.
دول الدائرة البؤرية للصراع وعلي رأسها مصر والأردن تميل إلي بعض الإدانات الشديدة, والتذكير بانتهاك قواعد القانون الدولي العام والشرعية الدولية ومقرراتها, أو بخطورة السلوك الإسرائيلي العنيف, وقد تصل الأمور إلي الذروة, ويتم استدعاء السفراء للتشاور.
تتفاوت ردود أفعال المعارضات السياسية العربية الإسلامية والقومية واليسارية عموما بحسب مواقع دولها الجيو سياسية, أو نمط تحالفاتها الإقليمية. غالبا ما تكون مواقف أكثر حدة وتركز أساسا علي استخدام أوصاف دينية أو سياسية قدحية تتجاوز النعوت السلبية الرسمية, من قبيل إننا إزاء أعمال إجرامية وعدوانية, و.. و.. إلخ. وبعدئذ مطالبة مصر تحديدا بكسر الحصار علي قطاع غزة وفتح المعبر, أو المطالبة بالجهاد لدي بعضهم, أو قطع العلاقات, أو إلغاء اتفاقيتي كامب ديفيد, ووادي عربة, أو دعم المقاومة الإسلامية المسلحة بكل ما يمكنها من دحر الاحتلال الإسرائيلي. نمط من ردود الأفعال متكررة, وسرعان ما تتبدد وتغدو بمثابة دخان في الهواء إذا شئنا استعارة عنوان عمود جلال الحمامصي اليومي الشهير. ما الذي تشير إليه اللغة الراديكالية المفعمة بالحماسة والتعبئة, وكذلك هذا التفاوت بين المواقف بين التشدد أو بعض اللغة الدبلوماسية ذات اللهجة القوية والمنضبطة في آن, ولا تتجاوز ذلك إلا قليلا. يبدو أنها لحظة مؤلمة وتنطوي علي جرح وألم جماعي مفتوح ويحمل معه إحساسا عميقا بالعجز والخوف وضعف الإرادات السياسية العربية المتعددة. إنها لحظة تحمل معها أسئلة البحث عن الحقيقة فيما وراء استعراضات العجز العربي الجماعي والاستقالة الجماعية عن الخيال السياسي, والقدرة علي بلورة مواقف وبدائل لمواجهة هيمنة إسرائيلية واختلال جسيم في موازين القوة الاستراتيجية عسكريا, وتكنولوجيا, وتعليميا.. إلخ, وذلك علي الرغم من أن الأداء الإسرائيلي يبدو حاملا لبعض من الفشل الذي انطوت عليه بعض العمليات الاستخباراتية المتكررة ومنها محاولة اغتيال خالد مشعل في الأردن عام1997, والكشف عن عملية فاشلة في سويسرا عام1998 للتنصت علي لبنان علي اتصال بحزب الله واستقالة دان دايتون رئيس الموساد آنذاك بعد أزمة دبلوماسية مع سويسرا, ومعها مؤخرا اغتيال محمود المبحوح أحد قادة حماس العسكريين في إمارة دبي التي كشفت عن تزوير عديد من جوازات السفر الفرنسية والبريطانية والنيوزيلاندية والاسترالية.
الأسطورة الاستخباراتية والأمنية باتت موضعا للشك وانطوت علي شروخ في هيبة الدولة, ولكن دون تهوين من قوة الدولة الإسرائيلية.
ثمة بعض من الفشل في إدارة إسرائيل للعمليات السياسية الدبلوماسية, ومنها كيفية التعامل مع حزب الله في حرب2006 علي لبنان, وفي حربها علي غزة, بقطع النظر عن تقييم مواقف الأطراف العربية وتحالفاتها في هذا الصدد. لكن ثمة تغيرا ينطوي علي بعض من الإيجابية في أداء بعض المنظمات العسكرية والسياسية العربية ما دون الدولة, في المجال الاستخباراتي والميداني أثناء القتال لا يمكن جحده, وقد يتطور في هذا الصدد وهو ما برز في أداء حزب الله, وذلك بقطع النظر عن الدعم الإيراني العسكري والمالي والتدريبي وبالسلاح, وكذلك السوري. لم تعد الأسطورة الإسرائيلية حاملة للهيبة والروادع التي كانت لها في الماضي, لأنها خضعت للقوي اليمينية المتعصبة المرعوبة من التسوية أو السلام من تحالف يميني تحركه الأساطير السياسية ويسكنه الخوف العميق من السلام العادل, ويتغذي علي روح الشعارات العربية الرسمية والمعارضة المحلقة والموشومة بالعجز والتفكك والتشوش وربما التيه في هذه المرحلة من تاريخ عجز العرب المعاصرين. غطرسة القوة الإسرائيلية وما تنطوي عليه من انتهاكات غشوم للقانون الدولي, وانكشاف لبعض الممارسات يشير إلي بعض الوهن الإسرائيلي من ناحية, ولكنها تكشف عن عجز عربي بنيوي, ومزايدات بين الحكومات بعضها بعضا, وبينهم وبين غالب المعارضات السياسية دونما فعل موحد, وإرادة سياسية جامعة, وإنما نحن إزاء شظايا ارادات, وأقوال وأفعال استعراضية معاقة. والسؤال ما الذي يشير إليه هذا المشهد السياسي المأساوي؟ يشير إلي عديد من الأسباب والعوامل الكامنة فيما وراء العجز البنيوي في العلاقات العربية, ومنها علي سبيل التمثيل لا الحصر ما يلي:
1 ـ بروز مؤشرات لانكسار في الموحدات الداخلية الوطنية, أو في القدرة علي إنتاج سياسات للاندماج الداخلي أو لإدارة التنوع والتعدد المناطقي أو العرقي أو الديني أو المذهبي أو في الحفاظ علي الوحدة الإقليمية للدول, وعلي رأسها العراق والسودان واليمن... إلخ.
2 ـ ذيلية قوي المعارضات السياسية للحكم والأحزاب السلطوية الحاكمة.
3 ـ ضعف وتآكل الكفاءة في إدارة شئون البلاد, والميل إلي استخدام عنف النظام وأجهزته الأمنية بديلا عن الخيال والأدوات السياسية.
4-تزايد الفجوات الشعورية بين عرب اليسر وعرب العسر ولاسيما علي المستوي الشعبي, وبروز شعور بالعزلة والخوف من قبل الميسورين ضد المعسورين في ظل تراجع الفكرة العربية الجامعة لصالح الفكرة الإسلامية الجامعة الرائجة كرابطة دينية تؤدي إلي بناء حواجز بين بعض القوي الدينية والمذهبية بعضها بعضا, وذلك بالنظر إلي بعض المعاني المذهبية التي تحملها في بعض الخطابات السياسية السنية إزاء الشيعة. وثمة خوف مسيحي عربي شعبي ونخبوي إزاء تراجع التسامح وتزايد الغلو الديني, بالإضافة إلي تمزقات قومية وعرقية من المغرب إلي الجزائر إلي السودان والسعودية ولبنان والعراق.
المسألة الفلسطينية تحولت إلي مرايا وأقنعة للعجز والمزايدات المتبادلة بين الدول العربية بعضها بعضا, ولاسيما بين دول الدائرة البؤرية للصراع, وبين دول الدوائر الأخري. انها ورقة تستخدم كأداة للتعبئة السياسية, وكقناع للتغطية علي أزمة الشرعية السياسية الحادة. يبدو سلوك وخطاب بعض قادة الأنظمة العربية مجانيا وشعاراتيا لأنها لغة بلا ثمن أو التزام أو ثمن سياسي.
بعض الأنظمة العربية ذات الإيديولوجيا والشعارات الدينية أدت سياستها إلي تفكك الدول التي وصلوا للحكم فيها عبر الانقلاب العسكري. أن الشعار السياسي الذاعق حول الإسلام وفلسطين الذي رفعه بعض هؤلاء هو أحد تعبيرات الفشل والعجز عن الحكم واستمرارية القمع.
تمثل المعارضات السياسية أيضا أحد تعبيرات العجز, لأنها حولت المسألة الفلسطينية إلي موضوع مجاني للمزايدة السياسية من أجل كسر القيود السلطوية علي حركتها في المجال العام. كما تستخدم الشعار الديني/ السياسي حول فلسطين موضوعا للتعبئة الدينية والسياسية, وأداة للإحراج السياسي للأنظمة الشمولية داخليا وإقليميا.
علي المستوي الفلسطيني ثمة عجز من الفصائل والجماعات المتنازعة عن الوصول إلي حد أدني من الاتفاق فيما بينهم ولو علي نحو إجرائي, وفشلوا في إدارة العلاقات البينية فيما بينهم, بل وممارسة بعضهم للقمع ضد بعضهم بعضا. وقام بعضهم برهن القضية الفلسطينية لدي أطراف إقليمية كتركيا وإيران وتحولوا إلي محض أدوات لهما. كلا الدولتين الإقليميتين الكبيرتين يستخدمان الورقة الفلسطينية كموضوع وقناع للتمدد الإقليمي علي الجسد السياسي العربي المعاق, وأداة للمزايدة السياسية مع الدول العربية الرئيسة. تحول نجاد وأردوغان إلي نجوم القضية الفلسطينية في عالم من العجز والفشل العربي, والأخطر في ظل غياب بدائل وغموض التوجهات السياسية العربية, والخوف اليميني الإسرائيلي المتعصب من السلام حتي غير العادل!
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]