ما رأيك في أحوالنا؟' سؤال نتلقاه فنجيب عنه بتلقائية, وغالبا ما تكون إجابة الكثير منا إجابة سلبية متشائمة معبرة عن صورة سلبية للوطن. تري هل تساءل أحد عن مصدر تلك الصورة بصرف النظر عن واقعيتها أو بعدها عن الواقع؟
إذا كانت صورة الجماعات الصغيرة ـ كالأسرة مثلا لدي أعضائها ـ تعتمد علي تراكم تأثيرات تبادلهم للمشاعر والخبرات و الأفكار من خلال ما يعرف علميا بالاتصال المباشر أو الاتصال وجها لوجه, فإن للصورة القومية مصدرا آخر; فمع زيادة أعداد البشر, واتساع المعمورة, وكذلك تبلور ظاهرة السلطة المركزية و حاجة تلك السلطة لصياغة وعي جماهيرها, كان حتما ظهور نمط جديد من أنماط الاتصال هو ما يعرف بالاتصال المركزي أو الجماهيري. لقد أصبحت الدولة المركزية الحديثة في حاجة إلي نوع جديد من أنواع الاتصال يضمن وصول الرسالة من المركز إلي جماهير الدولة في نفس لحظة إرسالها, ويضمن التحكم في مضمون هذه الرسالة المركزية بحيث تكفل تشكيل الوعي الجماهيري المشترك, أو بعبارة أخري صناعة المزاج القومي.
كان ذلك متاحا بسهولة في عصر احتكار الدولة للإعلام حيث تنفرد السلطة المركزية بصياغة المزاج القومي وفق توجهاتها. و قد عرفنا ذلك في بلادنا في عصر قريب حين لم نكن نري سوي انتصاراتنا داخليا و إقليميا ودوليا. ولكن دوام الحال من المحال: لقد تغير العالم و انفتحت السماوات الإعلامية, و لم يعد إعلام الدولة المركزية منفردا بصياغة المزاج القومي, و تعددت قنوات الاتصال الداخلية و الخارجية من صحف وإذاعات و قنوات تليفزيونية, وأصبحت جميعا خاصة برامج الحوار المباشر تلعب الدور الأساسي في صناعة' المزاج القومي', أي تشكيل صورة الوطن في عيون أبنائه, فضلا عن صورة العالم أيضا.
و قد يتساءل البعض إذا جاز أن تكون تلك القنوات وبرامجها هي المصدر الأساسي لصناعة صورة مصر لدي من يعيشون خارج الوطن, فلعل دورها يكون محدودا بالنسبة لنا نحن الذين نعيش علي أرض مصر و لنا خبراتنا المباشرة بواقعنا المعاش. و رغم وجاهة هذا الطرح فإنه يبدو من الناحية العلمية طرحا متسرعا.
إن أحدا منا مهما كانت قدراته و اتسعت اهتماماته بالشأن العام, لا يستطيع أن يزعم أن لديه معرفة مباشرة بأحوال المواطنين جميعا في أنحاء البلاد و علي مر الأيام. تري كم منا زار شخصيا منطقة الدويقة أو إسطبل عنتر أو عزبة القرود؟ و كم من أبناء المحافظات رأي بعينيه المحتجين علي سلالم نقابة الصحفيين أو المعتصمين أمام مجلس الشعب. قلة بالتأكيد الذين رأوا ذلك بشكل مباشر و لكن غالبيتنا قد رأوا كل ذلك بل و أكثر منه عبر صحف القطاع الخاص, و البرامج الحوارية التليفزيونية الخاصة, التي لا تكذب و لا تزيف و لكنها تنتقي ما تراه مهما من وجهة نظرها; و ليس من شك في أن استجابتنا لذلك الذي نراه ونسمعه و نقرأه تكون أقرب إلي السخط و الغضب والإحساس بأننا علي أبواب كارثة عظمي لا مهرب منها.
و من ناحية أخري تري كم منا زار شخصيا قصور أثرياء مصر و شهد أفراحهم و احتفالاتهم؟ و كم منا تعرف شخصيا و بشكل مباشر علي مركز غنيم لأمراض الكلي بالمنصورة؟ أو علي مركز جراحات القلب المجانية الذي أقامه الدكتور مجدي يعقوب في أسوان؟ إن غالبيتنا بطبيعة الحال لم تكن لهم مثل تلك الخبرة لا بشكل مباشر و لا عبر تغطية مكثفة عبر تلك البرامج الحوارية التليفزيونية.
و من يتأمل المشهد لن يغيب عن فطنته أن أولئك الذين يصرخون مدافعين عن فقراء مصر الذين تنهار المساكن علي رءوسهم, و يشربون المياه مختلطة بالمجاري, و ينامون في الشوارع علي أبواب المستشفيات انتظارا لدخولها حيث يواجهون الموت, و يشكون من البطالة و ضعف المرتبات إلي آخره; هؤلاء الصارخون دفاعا عن فقراء مصر و سوء أحوالهم, تقف وراءهم مجموعة من الأثرياء الطيبين' من مصر و من دول الخليج من أصحاب الصحف و القنوات الفضائية الذين تحالفوا لتنويرنا بسوء أحوالنا, و قرروا في نفس الوقت أن يحجبوا عنا رؤية مستوي معيشتهم هم, وأن يحجبوا عنا أيضا رؤية نقاط الضوء التي قد تكون محدودة و ذابلة; و لم تثر اهتمامهم تلك المؤشرات الرقمية الدولية و المحلية التي تشير إلي تحسن أحوال المصريين بدرجة ما, سواء علي مستوي حرية التعبير, أو علي مستوي تحسن نوعية الحياة متمثلة مثلا في ارتفاع متوسط أعمار المصريين, فضلا عن تزايد النسب المئوية لمالكي السيارات و الثلاجات و الشقق و تليفونات المحمول. و لا يعني ذلك بطبيعة الحال أن الفجوة قد ضاقت بين فقراء مصر وأغنيائها, بل لعلها اتسعت, و لا ينفي ذلك التحسن النسبي أنه كان بمقدورنا لو أحسنا إدارة مواردنا و قاومنا الفساد بشكل أكفأ أن نكون أفضل حالا بكثير.
لقد أولي أصحاب تلك القنوات و الصحف ـ و غالبيتهم من أثرياء سياسات الانفتاح ـ ظهورهم لذلك التحسن النسبي, و اندفعوا للترويج لتلك الصورة التي تدين أولا وقبل كل شيء مصدر ثرائهم شخصيا; بل و مصدر تلك الرواتب المتميزة التي يدفعونها بسخاء لمقدمي برامجهم ومحرري صحفهم.
و بطبيعة الحال فإن ما عرضنا له لا يشمل جميع مقدمي البرامج الحوارية, و لا كل أصحاب الأقلام في صحف الرأسمالية الجديدة, فثمة قلة منهم تحرص علي التوازن فيما يعرضونه بين السوءات و الإيجابيات, و لكنهم في النهاية الأقل عددا و ربما الأدني أجرا, و أيضا الأقل جماهيرية.
كلمة أخيرة: ثمة حقيقة يعلمها لنا التاريخ: إن بث اليأس في نفوس الناس لا يدفعهم لثورة و لا لتغيير و لا حتي لإصلاح, بل إلي فوضي انتحارية مدمرة يحلو للبعض أن يطلق عليها' الفوضي الخلاقة'
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]