فى عام 1972 تشكلت فى الكونجرس لجنة فرعية مهمتها «إصلاح السجون»، وأوكل لقسم علم النفس بجامعة ستانفورد القيام ببحث لدراسة ردود أفعال الناس العاديين فى وضع كوضع نزلاء وحراس السجون، حتى تكون اللجنة على بينة من قوة الحالة التى يوضع فيها الناس،
وما ينجم عن ذلك من نتائج. ولهذا الغرض قام الدكتور ( بى. هـ. ج. زيمباردو ) بتصميم بحث يتضمن وضع مجموعة من المتطوعين فى ظروف محاكية لظروف السجون، بعضهم يقوم بدور السجناء، وبعضهم يقوم بدور الحراس، وتحددت مدة البحث بأسبوعين.
أقيم السجن الصورى فى قطعة سفلية من الأرض تحت دهليز فى مبنى علم النفس بجامعة ستانفورد، وأُعلن فى صحيفة محلية عن طلب الجامعة لمتطوعين من الذكور للمشاركة فى دراسة سيكلوجية عن حياة السجن مقابل 1500 دولار فى اليوم. ومن بين المتقدمين للتجربة اُختير 24 فردا تقرر أنهم أنسب بدنيا، وأنضج عمريا، وأقل ارتباطا بالسلوك المعادى للمجتمع، ولم يثبت انحرافهم عن المجال العادى للسكان،
كما لم يُظهِروا عبر الاختبارات النفسية نزعات سادية أو مازوكية. وعلى أساس عشوائى تم تقسيمهم إلى ستة سجناء وستة سجانين، ووقّعوا على عقد يتضمن تعهدا بالاستمرار فى التجربة مقابل الأجر المُعلن عنه، مع تكفل القسم بالغذاء والملبس والإيواء والعناية الطبية، كما تَوَضَّح فى العقد أن الذين يُكلّفون بدور المساجين سيكونون تحت مراقبة شديدة، وستُعلَّق حقوقهم المدنية باستثناء سوء المعاملة الجسدية التى لن يتعرضوا لها، وأنه ينبغى عليهم أن يكونوا فى محال إقامتهم فى يوم عطلة محدد تبدأ عنده التجربة.
الأشخاص الستة الذين وقع عليهم الاختيار ليكونوا سجّانين، حضروا لقاء مع من سيقوم بدور «القيم على السجن» وهو باحث نفسى مُساعِد، كما التقوا بمن سيقوم بدور «المشرف» على السجن وهو الباحث الأساسى فى التجربة، وأُخبِروا فى اللقاءين أن مهمتهم ستكون «المحافظة على الحد المعقول من النظام فى السجن من أجل أداء وظيفته على خير وجه»! وكان تصميم البحث يقوم على إنشاء مُحاكاة وظيفية للنشاطات والتجارب التى فى حياة السجن الفعلية، والتى كان توقُّع مصممى البحث أن تُحدِث فى المبحوثين ردود أفعال نفسية من نوع: مشاعر القوة والعجز، والسيطرة والاضطهاد، والإشباع والإحباط، والحكم الاستبدادى ومقاومة السلطة، إضافة لما يجِدّ من نتائج غير مُتوقَّعة.
أما الأشخاص الستة الذين وقع عليهم الاختيار ليُعامَلوا كمسجونين، فبالاتفاق مع قسم شرطة مدينة «بالو ألتو» حيث يقيمون، تم توقيفهم فى اليوم المحدد على غير توقع منهم، وأبلغهم ضابط الشرطة الذى قبض عليهم أنهم متهَمون بالسطو على البيوت والسرقة باستخدام السلاح، وأعلمهم بحقوقهم القانونية، وكبّلهم بالقيود الحديدية، وفتشهم بدقة وإحكام فيما كان جيرانهم يراقبون ما يحدث،
ثم نُقِلوا بالقوة إلى المخفر فى مؤخرة سيارة الشرطة. وفى المخفر اجتازوا الإجراءات المتبعة مع المقبوض عليهم، من أخذ البصمات، وإعداد ملفات تحديد الهوية والإيداع فى زنزانة التوقيف معصوبى الأعين، إلى أن تم ترحيلهم إلى السجن الصورى فى قبو علم النفس بالجامعة تحت إشراف أحد الباحثين وحارس من المتطوعين الستة المُختارين للقيام بدور السجانين.
وطوال إجراءات التوقيف، حافظ ضباط الشرطة الحقيقيون المنخرطون فى التجربة على إبداء تصرفهم فى صورة موقف رسمى شديد الصرامة، وتجنبوا الإجابة عن أى سؤال من الموقوفين لاستيضاح علاقة هذا «التوقيف» بتجربة «السجن الصورى»!
وعند الوصول إلى السجن «الصورى»، تم تجريد كل «سجين» من ثيابه ورشه بمستحضر للقضاء على القمل، وأُوقف عاريا وحده لبعض الوقت فى ساحة السجن، ثم أُعطيت له ثياب السجناء، وأُخذت له صورة إثبات شخصية برقم مما يؤخذ لوجوه «المشبوهين»، ثم ساقه أحد المتطوعين بدور السجّان وأودعه فى الزنزانة آمرا إياه أن يظل صامتا «طبقا للتعليمات»! والجدير بالذكر، أن ثياب «السجناء» فى هذه التجربة كانت مصممة للإيحاء بالإذلال، فهى جلاليب قطنية واسعة خفيفة، يحمل كل منها رقما مطبوعا من الأمام ومن الخلف، مع طاقية من جورب نايلون يطمس الشعر، وفى رسغ كل قدم وضعوا قيدا بقفل لا يُنزع حتى عند النوم، أما الأقدام فكانت فى أخفاف مما يرتديه اللصوص.
والغرض من ذلك كله تعميق شعور «السجين» بانمحاء هويته وفرديته والشعور بالمهانة والتبعية، وأكثر من ذلك كانت الجلاليب الفضفاضة سيئة التلاؤم مع الأجساد ومُرتداة بلا ملابس داخلية، بحيث تجبر «السجين» على اتخاذ وضعيات تشبه وضعيات المرأة فى ثياب النوم، للحصول على عمليات قهر «تخنيثية» تعمِّق من الإحساس بصيرورة الإنسان سجينا فاقدا للهوية، حتى هويته الجنسية، وهو أمر يحدث فى السجون وبين النزلاء الجنائيين بالفعل، لكن بوسائل أخرى لم يكن ممكنا تطبيقها ولا محاكاتها فى بحث علمى جامعى، فكانت الجلاليب القطنية الواسعة والخفيفة، دون ملابس داخلية، هى ابتكار نفسى لمناظرة طمس الهوية الجنسية فى الواقع محل الدراسة.
كان البحث مُصمَّما بقسوة تتناسب مع قسوة حياة السجون الحقيقية، وكانت ردود أفعال «السجناء» النفسية والجسدية عنيفة، فبعد يومين من بدء التجربة، انخرط خمسة فى الصياح والتعبير عن الغيظ الجنونى، وأبدوا علائم الدخول فى اكتئاب عميق أو توتر حاد.
أما «السجين» السادس فقد أصيب بطفح جلدى نفسى جسدى عنيف، شمل مساحات واسعة من جسده. وأبدى اثنان من هذه المجموعة رغبتهما فى الخروج من «التجربة» مهما كانت الخسارة المالية والغرامة المتعين عليهما دفعها. وفى مواجهة كل تلك العواقب الصادمة وغير المتوقعة بهذه السرعة، اضطر القائمون على البحث إلى إنهائه قبل الأوان، وبعد مضى ستة أيام فقط على بدء التجربة، دون توقيع أية خصومات على المشاركين فيها.
ولوحظ أن إنهاء التجربة قوبل بترحاب شديد وفرح ممن كانوا يقومون بدور السجناء، بينما بدا معظم القائمين بدور السجانين مكروبين وغير مرحبين بإيقاف الاختبار، واتضح أنهم انهمكوا فى أداء أدوارهم إلى درجة الاستمتاع بما كانوا يمارسونه من السلطة والسيطرة الشديدتين على زملائهم، وكانوا يُبدون التزاما شديدا بمواعيد حضورهم فى المناوبات، كما أنهم فى عدة مناسبات قاموا بهذه الأدوار لساعات إضافية دون مقابل ودون تذمر، بل بترحاب. ولم يكونوا راغبين أبدا فى التخلى عن ذلك الدور ولا ذلك الاستمتاع!
ها هى سلطة تجريبية، وأشخاص خالين من الانحراف النفسى، ومع ذلك نشأت لديهم «متعة» خبيثة من ممارسة السلطة والتسلط على مقهورين خانعين، أليست هذه صورة صارخة لنفوذ السلطة على النفوس الإنسانية، وفضح لشىء من آلية تحوُّل الكائن الإنسانى إلى بهيمة بشرية، وحش أعمى يعربد استمتاعا بالسلطة والتسلط، دون أن يُريق دماء فى هذه الحالة، لكنه فى الواقع الأعمق يُريق ما هو أغلى من الدماء.
يريق نسغ إنسانيته هو نفسه، بينما يُزرى بإنسانية الآخرين، فيصير بهيمة بشرية تمزق نفسيات غيره، ومن ثم نفاجأ ببهائم بشرية مناظِرة، تخرج من النفسيات المُمزَّقة، وتكون دموية ومتوحشة فى هذه الحالة، لا لأنها مريضة بالتعطش الجنونى للدم، ولكن لأنها ضائعة ومذعورة وتضرب ضربات الخوف الجنونى العشوائية، فهى لا تتمع بدهاء البهائم البشرية العليا، ولا تمتلك أسلحتها السرية، ولا أقنعتها المتقنة.
فياله من بؤس مُركّبٍ غريب! يتطلب مزيدا من الإمعان!
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]